سوريا وفوضى السلاح.. رصاص طائش يُسكت الطفولة ويؤجج الخوف
سوريا وفوضى السلاح.. رصاص طائش يُسكت الطفولة ويؤجج الخوف
تظل الرصاصة الطائشة أخطر من أي عدو ظاهر، لا تختار ضحيتها، وقد تكون طفلًا في حلب، أو امرأة في دير الزور، أو شابًا في إدلب، وفي كل مرة تسقط حياة بريئة، ينفتح جرح جديد في جسد وطن لم يلتئم بعد.
في زقاق ضيق في حي الخالدية بمدينة حلب، تحولت مشادة بين عائلتين إلى ساحة حرب مصغرة، أصوات الرصاص علا صداها في الشارع المكتظ، وانتهى المشهد بسقوط طفل لم يبلغ بعد سن المراهقة، قتيلًا برصاصة طائشة كتبها القدر في ظل فوضى السلاح التي تبتلع مدن سوريا منذ سنوات.
لم يكن هذا الحادث معزولًا، بل هو جزء من واقع يومي يتكرر في أنحاء البلاد، حيث تحولت البنادق والقنابل إلى امتداد لليد السورية المثقلة بالخسارات.
وفقًا للمرصد السوري لحقوق الإنسان، ومنذ مطلع العام 2025 وحتى اليوم، قُتل 156 شخصًا نتيجة إطلاق رصاص عشوائي أو عن طريق الخطأ في سوريا، من بين هؤلاء الضحايا 51 طفلًا، و15 سيدة، و90 رجلًا، وأصيب 88 آخرون، بينهم 27 طفلًا و12 سيدة، هذه الأرقام لا تُظهر فقط حجم الخسارة، بل تكشف جانبًا مظلمًا في مأساة بلد مزقته الحرب يظهر في الفوضى المسلحة التي تواصل حصد الأرواح بلا تمييز.
من الثورة إلى الانفلات
بدأت الأزمة السورية عام 2011 موجة احتجاجات سلمية، سرعان ما تحولت إلى نزاع مسلح واسع، على مدار السنوات، تعددت الأطراف والولاءات، وتدفقت الأسلحة إلى البلاد بشكل غير مسبوق، فقد قُدرت قيمة الأسلحة التي دخلت سوريا بمليارات الدولارات، مصدرها حكومات ودول إقليمية ودولية، وجماعات مسلحة ومهربون.
بحلول منتصف العقد الماضي، غرق المجتمع السوري في بحر من السلاح غير الخاضع لأي رقابة، فالبنادق الأوتوماتيكية صارت شائعة في المنازل، والقنابل اليدوية صارت تُباع في الأسواق السوداء، في مناطق النظام السابق، انتشر السلاح بين الميليشيات المحلية والموالين.
وفي الشمال السوري بين فصائل المعارضة المسلحة، وفي الشرق تحت سيطرة قوات سوريا الديمقراطية (قسد)، وكذلك في مناطق النزاع المفتوحة بين مختلف القوى.
اليوم، ومع هدوء نسبي في بعض الجبهات، لم تهدأ فوضى السلاح، بل تحولت من أداة قتال إلى تهديد يومي لحياة المدنيين.
الأرقام تكشف المأساة
ينقسم ضحايا الرصاص العشوائي في سوريا بحسب مناطق السيطرة، ما يعكس خطورة الانتشار الواسع للسلاح في مختلف الجغرافيا السورية:
مناطق حكومة دمشق: شهدت مقتل 105 أشخاص (31 طفلًا، 11 سيدة، و62 رجلًا) وإصابة 35 آخرين، بينهم 12 طفلًا و5 سيدات.
مناطق الإدارة الذاتية: سقط 35 قتيلًا (14 طفلًا، 4 سيدات، 17 رجلًا) وأُصيب 49 آخرون، بينهم 12 طفلًا و6 سيدات.
مناطق الحكومة المؤقتة: قُتل 17 شخصًا (6 أطفال و11 رجلًا)، وأُصيب 3 آخرون (سيدة وطفلان).
هذه الأرقام –بحسب تقارير المرصد السوري– لا تشمل سوى ضحايا الرصاص العشوائي والقنابل بأيدي المواطنين، ولا تعكس ضحايا النزاعات المباشرة أو العمليات العسكرية.
خوف دائم وحياة تحت التهديد
يعيش السوريون اليوم في ظل رعب صامت، رصاصة طائشة قد تقطع طريق طفل إلى مدرسته، أو تحوّل فرح زفاف إلى مأتم، وتحوّلت المناسبات الاجتماعية في بعض المناطق إلى مصدر خطر، حيث يُستخدم السلاح في التعبير عن الفرح أو الحزن بلا وعي بالعواقب.
في حلب وحدها، وثق المرصد السوري عشرات الضحايا الذين سقطوا نتيجة مشاجرات أو إطلاق نار في الهواء خلال حفلات أو جنائز، أما في المناطق الريفية، فتضاعفت المأساة مع انتشار ثقافة حمل السلاح للدفاع الشخصي في ظل غياب الأمن وضعف هيبة القانون.
وتُحذر منظمات حقوقية محلية ودولية –بينها هيومن رايتس ووتش والعفو الدولية– من أن انتشار السلاح في سوريا لا يهدد المدنيين وحسب، بل يُقوض أي جهود مستقبلية للسلام والاستقرار. وفي تقاريرها الأخيرة، أشارت إلى أن مظاهر التسلح المجتمعي صارت جزءًا من الحياة اليومية، مع غياب برامج حكومية جادة لنزع السلاح أو الحد من انتشاره.
وتؤكد تقارير الأمم المتحدة أن الأزمة ليست فقط في وجود السلاح، بل في تحوله إلى وسيلة لحل الخلافات الشخصية والعائلية، في بلد خرج لتوه من نزاع طويل، تزداد المخاوف من أن يتحول العنف الفردي إلى دوامة لا تنتهي.
الطفولة في قلب الخطر
يُشكل الأطفال الوجه الأشد قسوة للمأساة، بحسب المرصد السوري، يشكل الأطفال نحو ثلث ضحايا الرصاص العشوائي. ليس ذلك فحسب، بل يعاني الآلاف من الأطفال أيضًا من صدمات نفسية عميقة جراء مشاهدة أحداث العنف أو فقدان أقارب بسبب إطلاق النار العشوائي.
وبحسب اليونيسف، فإن الأطفال السوريين يعانون مستويات مرتفعة من اضطراب ما بعد الصدمة (PTSD) والقلق المزمن، ما يؤثر في نموهم وتعليمهم وقدرتهم على الاندماج في المجتمع مستقبلًا.
وأحد أبرز أسباب تفاقم الظاهرة هو غياب سلطة القانون وعدم محاسبة مطلقي النار العشوائي. في بعض الحالات، يُعرف القاتل ولا يُحاسب بسبب نفوذه أو انتمائه لفصيل مسلح.
وتشير تقارير حقوقية إلى أن السلطات السورية – بمختلف تشكيلاتها – لم تُنفذ حتى اليوم خططًا فعّالة لجمع السلاح من المدنيين، سواء في مناطق النظام أو في مناطق الإدارة الذاتية أو في الشمال الخاضع للمعارضة.
مستقبل غامض وحلول غائبة
في بلد لا يزال يعيش انقسامات عميقة، يبدو الحديث عن نزع السلاح مهمة شبه مستحيلة حاليًا، فالمجتمع الدولي يركز على الحل السياسي الشامل، لكن غياب استراتيجية واضحة للسيطرة على السلاح سيجعل أي تسوية سياسية هشّة وعرضة للانهيار.
ترى منظمات دولية أن الحل يبدأ بخطط مدروسة لنزع السلاح الطائش، تعزيز سيادة القانون، وإطلاق حملات توعية لتغيير الثقافة المجتمعية التي باتت تعد حمل السلاح أمرًا عاديًا.